كان بلال بن رباح المنحدر من شلالات أفريقيا وأنهارها شجاعًا كأُسُودها، سخيًا كسهولها، ساق القدر أمه وأباه إلى مكة، وولد كالليل مليئًا بالأسرار والحزن والعبودية، هموم تملأ قلبه، وقيود تحز رقبته وآدميته.
بلال يبحث عن الحرية
كانت حياة آسنة عكرة لا بشائر فيها، حتى سمع برسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يحمل ما كان يبحث عنه .. الحرية والعدالة، كم تشققت قدماه وهو يبحث عنها فلم يجد عند قريش والعالم إلا سراب، ووجد الحقيقة والحلم عند محمَّد صلى الله عليه وسلم، فماذا ينتظر!!
لقد أدرك أسرار القوافل التي تمر بهذه الدنيا ثم ترتحل، وأدرك أين تستقر، أدرك أن هذه الدنيا ليست سوى أيام وساعات تتبخر، ومهما طالت فلن تدوم وأن الحياة هناك: خلف السحاب خلف السماء في مدائن الجمال والسحر والبهجة الخالدة، في جنات عدن، أو بين أنهار الحميم والنتن والعذاب المقيم!!
وله الخيار .. اختار بلال الرحمن .. ولفظ الشيطان من حياته، وتصدى كجيش من حديد لتعذيب قريش، "هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، وَأَخَذُوا يَطُوفُونَ بِهِ شِعَابَ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ" [1].
هذا هو بلال الجديد، رفض أن يقضى حياته منحنيًا لسوط وحجر، كان يرمي جسده كأنه يقول: خذوه فهو لكم، لكنكم لن تنالوا من روحي وإرادتي شيئًا ما دمت مع الله، فالروح لها طريق لا تعرفه قريش ولا أصنامها، طريق فسيح لا تردمه الجبال، طريق طاهر لا تمسه أيدي المشركين.
مأساة بلال
كانت مأساته مع قريش دامية مؤلمة، وكان منظره يذيب الصخر وهو يسحب في دروب مكة وشعابها، يلعب به الصبيان والسفهاء، وهو يسقط المرة تلو المرة من الإعياء، ثم يضطر إلى الوقوف مرة أخرى من لسع السياط والعصي على رأسه وجسده.
كان المسلمون حوله يتحرقون عليه لكن ماذا يفعلون وهم ليسوا بأحسن حال منه، حتى أشرقت شمس الحرية يومًا يحملها أبو بكر الصديق الحنون فقد تقدم نحو مالك بلال، نحو المجرم: أمية بن خلف فعرض عليه شراءه، فوافق الطاغية بعد أن كلت يداه وقدماه من الصفع والركل والضرب فلم يظفر بشيء من ذلك العملاق المتلبط بين السياط، ودفع أبو بكر الثمن، وقبض المجرم وتوجه أبو بكر نحو ساحة التعذيب يمد يده لينتشله، فكيف كانت حال بلال، وعلى أي صورة وجده.
هذا هو قيس بن أبي حازم يروي لنا آخر فصول المأساة البلالية فيقول: "اشترى أبو بكر بلالًا وهو مدفون بالحجارة" [2].
هذه هي منزلة بلال الإنسان عند هؤلاء الملحدين، إما أن يختار ما اختاروه له فيكون كادحًا طوال الليل والنهار مهانًا ذليلًا، وإما أن يرفض إرادتهم ويسلك دروب الدعاة فيدفع الثمن باهظًا، أكوامٌ من الحجارة تغطى جسده المنهك، وشمسٌ لاحفة تحمى عليه تلك الحجارة وتزيد في تعذيبه وإيلامه.
مد أبو بكر يده إلى هذا المسكين لتنتفض عنه قريش والحجارة.
بلال وشمس الحرية
مد أبو بكر يده لأخيه بلال لا لعبده بلال، فلقد اشتراه ليحرره من قيد العبودية والمهانة، ليطلقه في البيداء وفي السماء، يشرب الماء عذبًا، يتنفس الهواء نقيًا، ويعبد ربه أينما شاء، بعد أن كان يكد ويكدح طوال يومه دون مقابل، دون أجر أو كلمة شكر.
لقد قدم بلال تضحيات وتضحيات، وها هو اليوم، حر وسيدٌ من سادات الإسلام، بشهادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد أعظم رجالات الإسلام حيث يقول: "أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا" [3]، أما لماذا فلأنه اختار طريق محمَّد صلى الله عليه وسلم وصبر مع محمَّد صلى الله عليه وسلم.
بلال ورسول الله
لقد كان يجوع يوم يجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتألم عندما يتألم، ويجعل من جسده درعًا أمام الرماح الموجهة إلى نبيه، كان يخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يخاف على نفسه، إنه باختصار: يحبه أكثر من نفسه، وهذا ما جعل الدنيا كلها تحب بلالًا وتجله.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث بنفسه عن بطولات بلال رضي الله عنه، عن معاناته فيقول: "لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَأُخِفْتُ فِي اللهِ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثَةٌ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَمَا لِي وَبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا مَا يُوَارِي إِبِطُ بِلَالٍ" [4].
لقد حولت عقيدة الشرك قريشًا إلى كتلة من العنف والحقد والبخل، هكذا تعامل قريش ابنها البار، وابن سيدها وسيد العرب الكريم، تحشد له الشوك والسياط والجوع والخوف، حتى يمر به الشهر حزينًا لا يحمل إليه سوى لقمة يشاطرها بلال في وقت يتقلب فيه زبانية قريش في أنواع الملذات دون أن ينغص عليهم أنين المؤمنين تحت أقدامهم وسياطهم، أو يحرك عواطفهم.