إن الحمد لله نحمده ونستعينه،ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ،من يهدي الله فهو المهتد،ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فهذه وقفات أبعثها إليك معطرة بالأشواق محملة بالتحية، أزفها إليك من قلب قد أحب لك الخير بمناسبة قدوم ركن من أركان الإسلام العظام ألا وهو الحج إلى بيت الله الحرام أقدم لك هذه الوقفات وكلي رجاء أن تجد منك أذناً واعية وصدراً رحباً.
الوقفة الأولى : فضائل الحج :
لقد تعددت فضائل الحج وتنوعت فمن هذه الفضائل :
1/غفران الذنوب : ومن الذي لا يريد أن يغفر له ذنبه ، ويستر له عيبه ،فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من حج ولم يرفث ولم يفسق غفر له ما تقدم من ذنبه ) رواه الترمذي وفي لفظ ( رجع كيوم ولدته أمه) رواه البخاري ومسلم .
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة ، ويمحو عنك بها سيئة ، وأما وقوفك بعرفة ، فإن الله عز جل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة ، فيقول : هؤلاء عبادي جاؤوني شعثا غبراً من كل فج عميق ، يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني ، فكيف لو رأوني ؟ فلو كان عليك مثل رحل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك ، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك ، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة ، فإذا طفت البيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك[1]
2/ أن الحج يهدم ما قبله من الذنوب :جاء عمرو بن العاص ليعلن إسلامه فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أبسط يمينك لأبايعك ، فبسط الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقبضها عمرو، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما لك يا عمرو ؟ قال : أردت أن أشترط ، قال ، تشترط ما ذا ؟ قال : أن يغفر لي ، قال : ( أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما قبله ،وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها،وأن الحج يهدم ما كان قبله)وذهب ابن المنذر وجماعة من أهل العلم إلى أن الحج المبرور يكفر الذنوب لعموم النصوص وهو قول قوي جداً والله أعلم .
3/أن الحج والعمرة سببان مانعان – بإذن الله – من الفقر والذنوب : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلمتابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة) رواه الترمذي وغيره .
4/أن الحج سبب من أسباب دخول الجنة:عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم: ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) رواه البخاري،وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وليس للحج المبرور ثواب دون الجنة ) رواه النسائي.
5/ أن الحج سبب من أسباب النجاة من النار،عن عائشة رضي الله عنها قالت :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة،وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول(ما أراد هؤلاء)
6/ أن الحج من أفضل الأعمال : جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أفضل الأعمال إيمان بالله ورسوله ثم جهاد في سبيل الله ثم حج مبرور )
الوقفة الثانية : متابعة السلف بين الحج والعمرة :
إن المرء ليعجب أشد العجب من حرص السلف على عدم تفويت حج بيت الله الحرام في سنة من السنين،وكيف يفوت ذلك وهو يعلم عظيم الأجر والجزاء لمن حج البيت الحرام فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول عنه تلميذه نافع: سافرت معه بضعاً وثلاثين حجة وعمرة[2]
وهذا الحسن بن علي – رضي الله عنه – حج خمس عشرة مرة [3]
ويقول سعيد بن المسيب – رحمه الله – حججت أربعين حجة [4]
وروى سليمان بن أيوب : سمعت سفيان بن عيينة يقول : شهدت ثمانين موقفا[5]
ولو ذهبنا نستقرأ سيرهم في ذلك لطال المقام فأين أولئك المثبطون عن أداء هذه الشعيرة ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول : ( تابعوا بين الحج والعمرة فإنما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد ) ويقول صلى الله عليه وسلم ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )
الوقفة الثالثة:حالهم في أدائهم للحج :
إن المتأمل لحال الحج في هذا الزمان ليصدق عليه إلا من رحم الله – أنه حج الأبدان لا حج القلوب حركات وتنقلات وتمتمات يفعلها الإنسان بلا شعور ولا إحساس ، يذهب الإنسان ويعود بالنفس التي ذهب بها لم يتغير منه شيء،وكأن شيئاً لم يكن، قال رجل لابن عمر:ما أكثر الحجاج ؟ فقال ابن عمر: ما أقلهم ، ثم رأى رجلاً على بعير على رجل رث ، خطامه حبل فقال : لعل هذا،وقال شريح:الحاج قليل والركبان كثير، ما أكثر من يعمل الخير ولكن ما أقل الذين يريدون وجهه [6]
إذا كان هذا الكلام يقال في خير القرون وأزكاها وأفضلها فما يقال في زماننا والله المستعان ، فكم من الأوقات التي تذهب بالقيل والقال ، وكم من سقطات اللسان التي يتفوه بها كثير من النساء والرجال ، وكم من الأفعال التي ترتكب وهي تغضب العزيز المتعال ، كم من أناس رأيناهم وهم يرتكبون المعاصي والآثام في أشرف المواقف والأيام،كم من الناس من يتتبع عورات الناس ومحارمهم،وكم من الناس تسيء أخلاقهم مع الزحام فلا تراه إلا فاغراً فاه بالعويل ، متوعداً من حوله بالويل والثبور،وكم وكم فيا حسرة على العباد،ولكن لو سألنا التاريخ واستنطقناه أن يحدثنا عن أسلافنا الأوائل وحالهم في أدائهم لهذا المنسك العظيم لأخذتك الدهشة والاستغراب،وكان أمرهم محل العجب العجاب كأنك تعيش في عالم آخر،تعيش في عالم كله روحانية،إنهم يعيشون وقلوبهم موقنة بأن عين الله تراهم ، قال الجريري : أحرم أنس بن مالك من ذات عرق ، فما سمعناه متكلماً إلا بذكر الله حتى رحل ، قال له يا ابن أخي هذا الإحرام [7]
وقال سفيان بن عيينة – رحمه الله – حج علي بن الحسين – رحمه الله – فلما أحرم واستوت به راحلته اصفر لونه وارتعد ، ولم يستطع أن يلبي فقيل له : ما لك لا تلبي ؟ فقال أخشى أن يقال لي لا لبيك ولا سعديك ، فلما لبى غشي عليه [8]
وقال منصور : كان شريح إذا أحرم كأنه حية صماء [9] وقال شجاع بن الوليد : كنت أحج مع سفيان ، فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ذاهباً راجعاً [10] وقال ضمرة بن ربيعة : حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة ، فما رأيته مضطجعاً في المحمل في ليل ولا نهار قط ، كان يصلي ، فإذا غليه النوم استند إلى القتب[11] وحج مسروق – بن الأجدع – فلم ينم إلا ساجداً حتى رجع[12]
وهذا بكر بن عبد الله المزني الإمام القدوة قال ابنه : سمعت إنساناً يحدث عن أبي أنه كان واقفاً بعرفة ، فرفع رأسه فقال : لولا أني فيهم لقلت قد غفر لهم .
قال الذهبي : كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها[13] وقال أبو الفرج الاسفراييني : كان الخطيب البغدادي – معنا في الحج ، فكان يختم كل يوم ختمة قراءة ترتيل ، ثم يجتمع الناس عليه وهو راكب يقولون حدثنا ، فيحدثهم[14]
هكذا كانوا يشعرون حقيقة العبادة ، وهكذا كانت تأثر فيهم لقد وصلت هذه العبادة إلى سويداء قلوبهم فجعلتهم مرهفي الإحساس ، فسلام على تلك الأرواح ورحمة الله على تلك النفوس ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل :
سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب
(([1] رواة الطبراني في الكبير وحسنة الألبناني .
(([2] السير 5/97.
([3] ) السير 3/ 253
(( [4] السير 4/ 222
[5])) السير 8 /494
(([6] لطائف المعارف ص 276
(([7] طبقات ابن سعد 7/ 22
([8]) انظر القِرى لقاصد أم القرى للمحب الطبري ، والسير 4/386
(1) السير 4/100
([10]) السير 7/229
([11]) السير 7 / 119
([12]) السير 4/63
([13]) السير 2/ 532
[14] السير 18/279-280
الوقفة الرابعة : الحج المبرور .
جاء في النصوص بأن مغفرة الذنوب ودخول الجنة مرتب على كون الحج مبروراً ، وإنما يكون مبروراً إذا توفرت فيه الشروط التالية :
الشرط الأول :
الإخلاص لله تعالى : وذلك بأن يكون المقصود من هذا الحج وجه الله تعالى عز وجل ومن المعلوم أن العبادة لا تقبل إلا بشرطين وهما الإخلاص والمتابعة قال تعالى: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) (البينة: من الآية5) , وقال تعالى: (( فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ)) (الزمر: من الآية2) , وقال : (( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)) (الزمر: من الآية3) .
وروى البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) الحديث قال شريح : الحاج قليل والركبان كثير،وما أكثر من يعمل الخير،ولكن ما أقل الذين يريدون وجهه[1] .
قال ابن رجب رحمه الله : ومما يجب اجتنابه على الحاج و به يتم حجه أن لا يقصد بحجه رياء ولا سمعة ولا مباهاة ولا فخراً ولا خيلاً،ولا يقصد به إلا وجه الله ورضوانه ويتواضع في حجه ويستكين ويخشع لربه، روى عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حج على رحل رث وقطيفة ما تساوي أربعة دراهم ، وقال : (اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها ولا سمعة ) [2]
وقال ابن عبد البر – رحمه الله – (قيل الحج المبرور الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوف وكانت النفقة فيه من المال الطيب ) .[3]
الشرط الثاني : أن يكون المال حلالاً :
أخرج الطبراني وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : ( إذا خرج الرجل بنفقة طيبة ووضع رجله في الغزو فنادى لبيك اللهم لبيك ، ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور ، وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغزو فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك غير مبرور) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً)) (المؤمنون: من الآية51) , وقال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)) (البقرة: من الآية172) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ، ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له ) رواه مسلم قال ابن رجب - رحمه الله – ( ومن أعظم ما يجب على الحاج اتقاؤه من الحرام وأن يطيب نفقته في الحج وأن لا يجعلها من كسب حرام ) [4] .
وكما قال ابن عبد البر سابقاً وفيه : ( وكانت النفقة من المال الطيب ) وكما قال القائل :
إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل طيبة ما كل من حج بيت الله مبرور
الشرط الثالث : أن يقوم بما أوجب الله تعالى عليه :
فيؤدي حق الحاج ما أوجب الله عليه من مناسك الحج كما أمره الله تعالى وأمره به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يتهاون أو يفرط أو يتكاسل كما يرى ويشاهد من كثير من المسلمين في أدائهم لمناسك الحج قال صلى الله عليه وسلم : ( خذوا عني مناسككم)وكذا أيضاً يلزم الحاج أن يتقيد بما أوجب الله عليه من أحكام عامة ولا بد له من فعلها،فيحرص على إقامة الصلاة جماعة في أوقاتها،وعلى النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، قال شجاع بن الوليد : كنت أحج مع سفيان ، فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ذاهباً وراجعاً[5]
الشرط الرابع : أن يتجنب الحاج محظورات الإحرام خاصة والمحرمات القولية والفعلية عامة :
كما قال تعالى : (( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ )) (البقرة: من الآية197).
والرفث هو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية ، والفسوق وهو جميع المعاصي ومنها محظورات الإحرام ، والجدال وهو المماراة والمنازعة والمخاصمة ، لكونها تثير الشر،وتوقع العداوة [6] .
وكذلك يحرص الحاج على اجتناب المحرمات القولية والفعلية ، فيتجنب الكذب والغيبة والغش والغدر وسماع الغناء وشرب الدخان وغيرها من المعاصي التي انتشرت بين الحجيج – إلا من رحم الله – ولذا نهى الله تعالى عباده عن قول الزور فقال: (( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)) (الحج:30) .
الشرط الخامس : أن يقوم الإنسان بفعل أعمال البر
والبر يطلق على معنيين :
الأول : بمعنى فعل الطاعات كلها .
وقد فسر الله تعالى البر بذلك في قوله تعالى : (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) (البقرة:177) .
فتضمنت الآية أنواع البر ستة أنواع من استكملها استكمل البر :
أولها:الإيمان بأصول الخمسة ، وثانيهما: إيتاء المال المحبوب لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وثالثها : إقام الصلاة ورابعها : إيتاء الزكاة وخامسها : الوفاء بالعهد ، وسادسها : الصبر على البأساء والضراء وحين البأس ، وكلها يحتاج الحاج إليها ، فإنه لا يصح حجه بدون الإيمان ، ولا يكمل حجه ويكون مبروراً بدون إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ولا يكمل بر الحج بدون الوفاء بالعهود في المعاقدات والمشاركات المحتاج إليها في سفر الحج وإيتاء المال المحبوب لمن يحب الله إيتاءه ، ويحتاج مع ذلك إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في السفر ، فهذه خصال البر،ومن أهمها للحاج إقامة الصلاة فمن حج من غير إقامة الصلاة لا سيما إن كان حجه تطوعاً كان بمنزلة من سعى في ربح درهم وضيع رأس ماله وهو ألوف كثيرة .[7]
الثاني : بمعنى الإحسان إلى الناس بالقول والفعل :
ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البر فقال ( حسن الخلق ) وفي المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) قالوا وما بر الحج يا رسول الله ؟ قال : ( إطعام الطعام وإفشاء السلام ) [8] وفي حديث آخر ( وطيب الكلام ) .
ولذا لا بد للحاج أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة والسجايا الخيرة ، الطباع الكريمة من الكرم بالبدن والعلم والمال ، فيعين من يحتاج إلى العون والمساعدة ، ويبذل العلم لطالبه ، والمحتاج إليه ، ويكون سخياً بماله ، فيبذله في مصالح نفسه ومصالح إخوانه ، وينبغي أن يكون طلق الوجه ،طيب النفس رضي البال ،حريصاً على إدخال السرور على إخوانه أليفاً مألوفاً ،ولذلك يأمر الله تعالى الحاج أن يربي نفسه على بذل الخير ونفع الناس : (( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ )) (البقرة: من الآية197) .
ومن المعلوم أن خير الناس أنفعهم للناس،وأصبرهم على آذى الناس كما وصف الله المتقين في قوله : (( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) (آل عمران:134)
والحاج يحتاج إلى مخالطة الناس ، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم أفضل ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ، قال ابن عمر رضي الله عنهما : إن البر شيء هين وجه طليق وكلام لين وسئل سعيد بن جبير:أي الحاج أفضل ؟ قال : من أطعم الطعام وكف لسانه .
وينبغي أن يكثر من إطعام الطعام : وهذا الأمر تكثر الحاجة إليه في موسم الحاج لكثرة الناس ، وقلة ذات اليد عند غالبهم واحتياجهم إلى الطعام والشراب ، ولهذا يذكر الله تعالى عبده الحاج بتنمية الأخوة الإيمانية واستغلال اجتماعه بإخوانه المسلمين بالإحسان إليهم : (( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)) (الحج: من الآية28) , (( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ )) (الحج: من الآية36) وفي المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال :" الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " قالوا : وما بر الحج يا رسول الله ؟ قال : " إطعام الطعام وإفشاء السلام "
ولهذا حرص السلف – رحمهم الله – على هذا المبدأ وكانوا يتواصون به فقد جاء أن رجلان قدما على ابن عون يودعانه ويسألانه أن يوصيهما فقال لهما:عليكما بكظم الغيظ وبذل الزاد،فرأى أحدهما في المنام أن ابن عون أهدى لهما حلتين[9] وكان ابن المبارك يطعم أصحابه في الأسفار أطيب الطعام وهو صائم ،وكان إذا أراد الحج من بلده مرو جمع أصحابه وقال : من يريد منكم الحج فيأخذ منهم نفقاته فيضعها عنده في صندوق ويقفل عليه ثم يحملهم وينفق عليهم أوسع النفقة ويطعمهم أطيب الطعام ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من الهدايا والتحف ثم يرجع بهم إلى بلده فإذا وصلوا صنع لهم طعاماً ثم جمعهم عليه ودعا بالصندوق الذي فيه نفقاتهم فرد إلى كل واحد نفقته [10]
أقوال السلف في تفسير الحج المبرور
قال ابن خالويه : المبرور هو المقبول : وقال غيره ، هو الذي لا يخالطه شيء من الإثم ، وهذا ما رجحه النووي ، وقال القرطبي ، الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى ، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل والله ، وقيل الذي يظهر بآخره فإن رجع مما كان عرف أنه مبرور [11] وقيل الذي لا رياء فيه [12] .
وقال النووي – رحمه الله – الأصح والأشهر أن المبرور هو الذي لا يخالطه إثم مأخوذ من البر وهو الطاعة ،وقيل هو المقبول ومن علامة القبول أن يرجع خيراً مما كان ولا يعاود المعاصي ، وقيل الذي لا رياء فيه [13]
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
(([1] أنظر : لطائف المعارف ص 276
(1)طائف المعارف ص 276 وقال الحافظ في الفتح (3/381) إسناده ضغيف والحديث رواه ابن ماجة
[3] انظر الاستذكار (11/231) ، التمهيد ( 22/ 39)
([4]) لطائف المعارف ص 276
([5]) السير 7/229
[6] انظر تفسير ابن سعدي ( 1/157 )
([7]) انظر لطائف المعارف ص 273
([8]) الحديث له طرق وقد حسنه الألباني بمجموع طرقه ، انظر السلسلة الصحيحة 3/262 وضعفه الحافظ في الفتح ( 3/381)
([9]) انظر لطائف المعارف ص 271
([10]) انظر لطائف المعارف ص 272
(([11] فتح الباري ( 3/ 382)
([12] ) انظر الفتح 1/ 71
[13] شرح مسلم النووي ( 9/118) .